عرفت الهند منذ أكثر من أربعين سنة يوم كانت عالماً مجهولاً للعربي وغير العربي، ويوم كانت الرحلة إليها مغامرة في عالم المجهول، وكان الحديث عنها كالحديث عن القطبين أو كالحديث عن مكان ما من العالم خارج عن أرضنا، لا بل لقد كنا، آنذاك نسمع قصصاً خيالية تُروى عن الهند لا يسع تصديقها، وليس من دليل على تكذيبها، بينما كنا نعرف أشياء ثابتة راهنة عن القطبين اللذين يُعدّ روادهما على الأصابع، ولكنهم رواد علماء، ولا يروون إلا الحقائق، بينما كان رواد الهند أو أكثرهم من الجهلاء أو من المخرفين الذين كانوا يزيدون أحاديثهم بالمبالغات؛ لكي يستدرّوا إعجاب السامعين .
عرفت الهند في تلك الفترة النائية، وقضيت فيها زهرة شبابي وأجمل أيام حياتي؛ إذْ كنت أستاذاً في جامعة (عليكرة) الإسلامية، وهي الجامعة الوحيدة التي تستطيع أن تفخر بأنها أول بيت علمي أُنشئ للمسلمين بعد استيلاء الإنجليز على الهند والقضاء على الإمبراطورية المغولية. وهذه الجامعة هي التي كوّنت أكثر رجالات المسلمين وزعمائهم وعلمائهم، ووجود المرء في عداد أساتذة مثل هذا العهد الفذ يكسبه شهرة، ويفسح أمامه مجالات علمية وثقافية واسعة، لا بل ويفتح له كل الأبواب على مصراعيها.
وأعجبت بالهند، وأحببتها حباً جماً لأسباب كثيرة منها:
1 ـ لأنها أول بلد غير عربي رأيته.
2 ـ لأنها عالم جديد غير العالم الذي عرفته.
3 ـ لأنها عالم يختلف اختلافاً كلياً عن عالمي من حيث عادات أهله وتقاليدهم وآدابهم وأديانهم ومعتقداتهم
وتفكيرهم وطعامهم وشرابهم ولباسهم وأشكالهم، لا بل وجسومهم وسحنهم أيضاً، والمرء بطبيعته يُعجب بكل جديد؛ لأن الجديد يعني الاكتشاف في عالم المجهول، والمرء محب بفطرته للاكتشاف.
رأيت الهند، وأقصد بالهند شبه الجزيرة الهندية بما فيها من هندوستان وباكستان، وأحببتها حباً جماً، أحببت البلاد، وأحببت أهلها، وأحببت شجرها وحيواناتها، وأحببت خضارها وفواكهها، وأحببت طعامها وشرابها، وأحببت حرّها وقرّها، هذا، عدا أمور كثيرة كنت أستقبحها، ولكني كنت ككل محب أتغاضى عن القبيح، وأبتدع له المسوغّات .
أحببت أهل الهند كلهم، مسلمين وهنادكة، لأني لم أكن أنظر إليهم من خلال معتقداتهم بل من خلال إنسانيتهم، ولأني أُخذت بروعة مظاهرهم الوديعة ونفوسهم المسالمة، وما ينطوون عليه من أنس وبساطة واستسلام.
أحببتهم من خلال أدبهم الرفيع وتواضعهم الجمّ حيث يختم المرء كتابه العادي المليء بالإطراء واللطف والوداعة بقوله: خادمك فلان. أو شاكر فضلك فلان، أو أسير لطفك فلان. أو ما أشبه ذلك من عبارات العجز والانكسار أو التواضع . أحببتهم لأني أُخذت بهذه المظاهر التي خُيّل إليّ أنها تسمو على عالم المادة، وتصل مباشرة بعالم الروح والصفاء. أحببتهم وأردت أن أدخل إلى سرائرهم، وأتصف بصفاتهم لأكون مثلهم، فتعلّمت بضع لغات من لغاتهم، وأتقنت الأرديّة مما أتاح لي أن أندمج في كل الأوساط اندماجاً، وأن أعاشر كل الناس، وأتّصل بكل الطبقات من كل الأديان اتصالاً وثيقاً ومباشراً فأصل إلى قرارة نفوسهم؛ لألمس ما كانت تنطوي عليه تلك النفوس. هل كان هذا منبعثاً من عوامل خلقية طبيعية أو كان نتيجة ما كان الناس يعانونه من ذل الاستعمار الجائر، وما كان يعانيه 95 % من أهل البلاد من فقر وسوء حال؟!
ومهما يكن من أمر فقد كنت أنظر إليهم من خلال إنسانيتهم، فشاركتهم آلامهم ومحنهم وشعرت بشعورهم. ولكني كنت كلما اختلطت بالهنادكة بدا لي ما كانوا يضمرونه من حقد عليّ، وكره للمسلمين ونفرة منهم . وكنت أظن، بادئ الأمر، أن الجهل هو منشأ هذه الكراهية ولكني أدركت، بعد ذلك، أن هذا الكره جزء من العقيدة الهندوكية الجارية في دمائهم جيلاً بعد جيل، والتي كان أصحاب الأغراض يوقدون نيرانها. فالهندوكي لا يكره المسلم ويمقته فقط، بل وينظر إليه نظرته إلى القذر ذاته، فصوت المسلم نجس، وجسمه نجس، وثيابه نجس وأوانيه نجس، وهو أحقر قدراً، وأقل قيمة من بقرة أو قرد أو أي حيوان آخر.
ولا ينظر الهنادكة إلى أصحاب الديانات الأخرى، أي اليهود والنصارى والمجوس نظرة إنسانية خالصة، ولكن احتقارهم إياهم أخفّ وطأة من احتقارهم للمسلمين، وكرههم إياهم أقل من كرههم للمسلمين، ولعل السبب في ذلك هو أن الهنادكة ينظرون إلى المسلمين نظرتهم إلى مغتصبين؛ إذ إنهم اغتصبوا(هكذا ينظرون) أرضهم، واغتصبوا منهم تلك الملايين من الناس الذين أصبحوا مسلمين، وهذه نظرة خاطئة؛ لأنهم هم أنفسهم دخلاء على البلاد.
لمست ما كانت تنطوي عليه نفوس الهنادكة، ولكن كل هذا لم ينقص من محبتي للهند وأهلها شيئاً؛ إذ كنت أظنها فترة عابرة، وستزول بزوال الاستعمار؛ لأن الهند عاشت ألف سنة، في ظل الإسلام والمسلمين، حياة هادئة ناعمة لم يُسمع فيها بحادث يعكّر الأمن أو يسيء إلى العواطف بسبب ديني، وكم تألمت حينما رأيت هذه البلاد الهادئة الوادعة، بلاد (اليوغا) والتصوف تعيش على أتون ملتهب من الحقد والبغضاء اللذين ليس لهما ما يسوّغهما في هذا الزمن إلا ضيق الفكر والصدر، فالبلاد واسعة شاسعة وتتسع لكل الناس والأديان في العالم، ولا بد لها من أن تبقى كذلك .
كم كنت أتمنى أن تحقق الهند مظهرها الذي عرفته، وكم أتمنى أن أكتب في يوم من الأيام كتاباً عن الهند لأقول فيه: لقد تحققت أمنيتي، وأن أهل الهند من هنادكة ومسلمين وسيخ وبوذيين وجين ومسيحيين ويهود ومجوس يعيشون كلهم في أخوة ومحبة وصفاء، ويعملون كلهم لخير بلادهم ولسعادتها وهنائها.هذا ما أتمناه، وهذا ما أرجو أن يتحقق، ولكنه لا يتحقق إلا إذا أنصفت الأكثرية الهندوكية الأقليات وعاملتها معاملة الأخ الأكبر للأخ الأصغر، والصديق المخلص لصديقه، وإذا لم يتحقق هذا فالذنب كله على الهنادكة؛ لأنهم يريدون أن يعتمدوا على كثرتهم وعلى قوتهم للبطش بالضعفاء من أهل البلاد والاستبداد بهم خاصة في كشمير المسلمة، والقوة والبطش قد ينتصران مرة أو مرات وإلى حين، ولكنهما لا ينتصران دائماً وإلى الأبد .. و(كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)[البقرة: من الآية249].
الاسلام اليوم