--------------------------------------------------------------------------------
نحو ثقافة اعمق للجينات و الأمراض الوراثية
دور الطفرات الصامتة فى ظهور الامراض الوراثية
د. ياسر محجوب*
كان يعتقد حتى وقت قريب أن التغيرات الصغيره التى تحدث ل ( DNA ) يمكن تجاهلها ولكن اخر الابحاث الجينيه تشير الى عكس ذلك تماما فهذه التغيرات الصغيره اتضح انها تلعب دورا مهما فى حدوث الكثير من الامراض. ليس هذا فحسب ولكن ايضا فى مجالات مهمه الان مثل البيوتكنولوجيا. اعتقد علماء الاحياء منذ فتره ليست بالقصيرة من انهم تمكنوا من فهم الاليه التى تستطيع بها الطفرات الجينيه من احداث الامراض . ففى السابق كان هنالك اتفاق بين العلماء بأنه طالما كانت الطفرات "صامتة" فانه ليست لها أى اثار سلبية على صحة الانسان وذلك لأن أى تغيير فى ال
(DNA) سوف لن يؤدى الى تغيير تركيبة البروتينات التى يتم "تشفيرها" اصلا بواسطة الجينات . والبروتينات هى المواد الرئيسية التى تساعد الخلايا فى القيام بوظائفها البيولوجيه ابتداء من الانزيمات التى تقوم بدور التفاعلات البيوكيميائيه والحيويه فى داخل الخلية وانتهاءا بالتعرف على الجراثيم والمواد الغريبه التى تغزو الجسم باستمرار. وعليه كان الاعتقاد السائد انه طالما أن تركيبة البروتينات فى داخل الخلية قد تم تصنيعها بصورة صحيحة فان أى اخفاقات صغيره اثناء عمليات تضيع هذه البروتينات بداهة لايمكنها أن تؤدى الى ظهور أى مشاكل صحية من أى نوع.
رغم أن بعض الدراسات فى السابق قد ربطت بين بعض الاضطرابات بالطفرات الصامتة الا أن الباحثين لم يكونوا يتصورون بأن هذه الطفرات هى "المتهم" بظهور هذه الاضطرابات لما ذكر أعلاه.
فى الوقت الحالى يعكف الباحثون على دراسة الطفرات الصامتة واثارها المختلفة على صحة الانسان من منظور جديد. ومن الواضح أن النتائج الأولية لهذه الأبحاث سوف تفتح افاق واسعة فى مجال تصميم الجينات العلاجيه وفى أغراض الهندسة الجينية.
تشابه ولكن ليس تاما:
ان الاليه التى تؤثر بها الطفرات الجينيه على البروتينات تتضح لنا بشكل جلى عندما ننظر بتمعن للطريقة التى تقوم بها الخلايا عند تصنيعها للمواد البروتينية. ومن العجيب حقا أن مبدأ التصنيع هذا فى حد ذاته بسيط: يقوم خيط ال (DNA) باستنساخ نفسه فى شكل خيط أحادى فى تسلسل ما يسمى بال (RNAm) والذى يحمل على جسمه "الأوامر" الخاصة بتصنيع المواد الأولية المكونه للبروتينات ( الأحماض الأمينية). بمعنى اخر فان التعليمات المشفره على أسطح الأحماض النووية (RNA & DNA ) يجب ان تترجم الى لغة مفهومة وهى لغة الأحماض الأمينية ولتكون لغة هذه الأحماض مفهومة لدى خلايا أجسامنا لابد أن تكون البروتينات المكونة من هذه الأحماض الأمينية فاعلة وظيفيا فى داخل الخلايا بحيث تؤدى دورها بمنتهى الدقة وفى حال حدوث أى خلل فى تصنيع هذه البروتينات من حيث الشكل فانها تفقد القدرة على العمل وتصير مسخا.
معضلة تصنيع البروتينات تكمن فى أن هذه العملية يجب ان تتم خارج النواة فى سيتوبلازم الخلايا وليس فى داخل الأنوية. فالمعلومات ( الأوامر) تخرج من ال (DNA) الموجود فى الأنويه فى شكل مادة جديدة مستنسخة من جسم ال (DNA) تسمى (RNA) وهذه المادة تلعب دور الرسول أو السفير المحمل (بأوامر) محدده بتصنيع البروتينات التى تحتاج اليها اجسامنا لتأدية وظائفها المختلفة. وتتم هذه المهمة داخل "مصانع" موجودة خارج نواة الخلايا وتسمى "الريبسومات" ولتقوم هذه المصانع بتصنيع منتجاتها (البروتينات) لابد من وجود مواد أولية وهى الأحماض الأمينية المذكورة اعلاه. و يتم احضار هذه المواد الأولية الى المصانع عن طريق (شاحنات) مخصصة تسمى
(AN tR) وكل شاحنة عادة مسؤولة عن تحميل حامض أمينى واحد. ولتبسيط الصورة أكثر نشير الى أن كل العناصر الأساسية لتشغيل المصانع صارت موجودة وهى الريبوسوم "المصانع", (RNAm) "السفير" الناقل لأوامر التصنيع وشاحنات النقل (RNAt) بالاضافه لوجود المواد الأوليه داخل الخلايا وهى الأحماض الأمينيه والتى سوف يتم تصنيع البروتينات منها.
تعتمد عملية تصنيع البروتينات على دخول السفير الناقل بالاوامر (A RN m) الى الريبوسومات محملا بالمعلومات المطلوبة فى شكل تسلسل ثلاثي متتابع من الاحماض النووية المستنسخة من جسم الحمض الوراثي للتعرف على الأحماض أمينيه يقوم السفير الناقل بالتعرف عليها عن طريق التعرف والتحام كل ثلاث مواد تسمى بال(Nucleotides) بحامض أمينى واحد عادة ويبدأ تركيب البروتينات هنا بعد مطابقة الأوامر المنقوله عن طريق السفير مع الشحن التى يحملها الناقل (RNAt) المتمثله فى شكل حامض امينى واحد. ويجب لفت النظر هنا الى أن عملية تصنيع أو تركيب البروتينات تتم فى الظروف الطبيعيه بدقه متناهيه وسرعه مذهلة. هذه العمليه المعقده فى تصنيع البروتينات تسمى بالشفره الجينية وهى باختصار ان كل الجينات وسفرائها (A RN m) يتم تنظيمها فى شكل ثلاثة احرف يطلق عليها اسم "الشفرات" وبحكم ان لدينا اربعة احماض نكليوتيدات تدخل فى تركيب الجينات فان عدد الشفرات الكلى المسؤولة عن تركيب كل البروتينات هى 64 (3 4 ) ومن اصل هذه 64 شفره اكتشف ان هنالك 61 شفره مسؤولة عن تركيب البروتينات الثلاثة الباقيه فهى المسؤولة عن ايقاف تركيب البروتينات داخل المصانع "الريبوسومات" .
ومن هنا يفهم ان لكل ماده اوليه "حامض امينى" تدخل فى تصنيع بروتين هنالك اكثر من شفره واحده تقوم بهذا الدور لانه لدينا فى داخل خلايا 20 حامض امينى فقط و61 شفره فمثلا كل الشفرات التى تبدأ ب ( G ) وهى ( GGG,GGA,GGC) يتم ترجمتها الى حامض امينى يسمى "غليسين" مما يجعل هذه الشفرات مترادفة أو مشتركة. هذه الظاهرة تدخلنا فى صلب الموضوع وهو دور الطفرات فى ظهور الأمراض الوراثية.
ان تغيير "حرف" واحد او اكثر على مستوى الشفره الجينيه يمكن ان يؤدى الى مشاكل طفيفه او معقدة فى داخل اجسامنا ابتداءا من عضو واحد كالدماغ والكبد والكلى ......الخ وانتهاءا بتغيرات واضحه على مستوى كل الجسم من الخارج. فمثلا تغيير "حرف" واحد يمكن ان يحدث طفره فى تركيبه ال ( DNA ) وبالتالى تغيير فى "الشفر" المسؤله عن تركيب حامض امينى واحلاله بحامض اخر بالخطأ او ربما ايقاف انتاج بروتين بعينه او انتاجه ناقصا من حيث التركيب او حتى انتاج بروتين اكثر طولا من المعتاد ومن هنا يمكننا أن نستنتج بأن الشكل النهائى لتركيبة البروتين المصنعه بأوامر الجينات سواء كان كاملا او ناقص من حيث التركيب يلعب دورا حاسما فى الأداء الوظيفى لأجسامنا.
الادله على دور الطفرات:
وللدلاله على كثرة انواع الطفرات المذكوره اعلاه وتثيرها الكبير على صحة اجسادنا نشير الى انه هنالك ثلاث طفرات فى الجينات المشفرة للبروتينات التى تقوم بتصنيع الهيموغلوبين الخاص بكرويات الدم الحمراء. هذه الطفرات مسؤولة بشكل منعزل عن ثلاثة امراض خطيره. فمثلا فى حال الانيميا المنجليه( Sickle Cell Anemia) فان ما يطلق عليه ب (Missense Mutation) تقوم باحلال حامض امينى قابل للذوبان "محب للماء" مكان حامض امينى لا يذوب فى الماء "كاره للماء" مسببا تكتل كرويات الدم الحمراء وبطء حركتها فى داخل الشرايين وذلك كنتيجة مباشرة لتغيير شكلها الى الشكل المنجلى المعروف. الحالة المرضية الثانية هى مرض ال
( Polycythemia ) حيث تقوم نوع من الطفرات تسمى (Nonsense Mutation ) بقص أحد البروتينات الداخلة فى تركيب الهيموغلوبين مما يؤدى الى زيادة سماكة الدم بصورة اكثر من العادية. أما الحالة الثالثة هى عندما تقوم طفرة تسمى (Sense Mutation ) بتغيير شفرة جينية مسؤولة عن اعطاء الأوامر لايقاف تصنيع البروتينات معروفة بشفرة(TAA) واحلالها بشفرة أخرى مسؤولة عن ادخال حامض أمينى يسمى الغلوتامين وهى شفرة ال (CAA) وكنتيجة مباشرة لهذا الاحلال فانه يتم انتاج بروتين أكثر طولا من المعتاد وغير فاعل داخل الخلايا.
ان دور الطفرات الصامتة وتأثيرها فى تصنيع البروتينات لم يبدأ التعرف عليه "على مستوى البكتيريا والخميرة على الأقل" حتى الثمانينات من القرن الماضى وكان الاكتشاف المهم فى ذلك الوقت هو أن تلك الكائنات الدقيقة لا تقوم باستخدام الشفرات المتشابهة من حيث التسلسل بطريقة متساوية فى تركيب الأحماض الأمينية . فشفرة (AAC) تظهر بشكل أكثر تكرارا من شفرة ال
(AAT)
والسبب فى تفضيل شفرة معينة دون سواها يرجع الى زيادة مستوى ونسبة الدقه فى تصنيع البروتينات وتقليل نسبة الخطأ فى تصنيع بروتينات غير فاعلة على المستوى الخلوى. نفس القاعدة تنطبق تماما على الشاحنات الناقله (tRNA) والجينات التى تعطى الأوامر فى تصنيعها. حيث أن الشاحنات التى توجد عادة فى الخلايا بكثره يتم تصنيعها بصورة أكبر ونقلها الى سيتوبلازمات الخلايا لأن الأخيرة فى أمس الحاجه لوجودها بكثره.
ورغم أن أنظمة الخلايا مجهزة بأعلى مستوى من الدقة لضمان تصنيع بروتيناتها ذات الأداء الوظيفى العالى الا أنه منذ عام 2000 بدأت تتكشف للعلماء أن الطفرات غير الملحوظه (الصامته) يمكن مسئوله عن حدوث أكثر من 50 مرض مباشر أو غير مباشر. ودور الطفرات هنا يمكن أن يكون فى انها تقوم باستهداف (RNA) وهى كما أسلفنا تقوم بدور "السفير" الذى يحمل رسائل تصنيع البروتينات فعملية "التلاعب" بمحتوى هذه الرسائل يؤدى فى نهاية المطاف الى تصنيع بروتينات شاذه أو غير فاعلة ويظهر هذا بوضوح فى بعض الأمراض الوراثية مثل متلازمة (Marfan) وسببها طفرتان صامتتان تؤديا الى ظهور طول غير عادى فى أطراف الجسم ومتلازمة (Seckel ) ومرض ال (Phenylketonoria) ومتلازمة (McArdle) ........الخ
كسر صمت الطفرات:
كشفت العديد من أمراض البشر أن دور الطفرات فى حدوثها تتم بعدة طرق ابتدءا من التأثير على
(DNA) وانتهاءا بالتأثير على الرسول الناقل لرسائل تصنيع البروتينات أو (mRNA)
وتكمن احدى اليات الطفرات الصامته فى ظهور الأمراض على تأثير فى ادخال الرسائل غير المسؤولة عن تركيب الأحماض الأمينيه تسمى (Introns) مع الرسائل المسؤولة عن تركيب هذه الاحماض (exons) فى جسم الرسول الناقل (mRNA)
يجب الاشاره هنا الى أن الرسول الناقل لرسائل تصنيع البروتينات من الاحماض الامينيه عادة ما يحتوى على الاكسوناات فقط فى الوقت الذى يكون فى (DNA) محتويا على خليط من الاكسونات
و الانترونات (Introns) بشكل متعاقب على طول الجسم ال (DNA) وكانت دراسة قد قام بها (Willim Fairbrother) من جامعة براون قد اشارت ان عدم خروج ال (Introns) بشكل سليم قبل عملية استنساخ الرسول الناقل من جسم ال (DNA) بتأثير الطفرات الصامته تلعب دورا مهما فى ظهور مجموعة كبيرة من الامراض الوراثيه . وفى دراسة حديثة أخرى أشرف عليها (Francisco Baralle من المركز الدولى للهندسة الجينيه والبيوتكنولوجيا بمدينة ترسكلى بايطاليا أن 25% من الطفرات الصامته المستحدثه فى المعمل على (Exon) واحد فقط قد عطلت اقتران ال (Exons ) بشكل سليم مما يعتقد بانها تلعب دور فى ظهور مرض وراثى مثل التليف الكيسى .
وهنالك اليات اخرى تقوم بها الطفرات الصامته فى ظهور العديد من الامراض الوراثيه وليس فقط منع الاقتران الصحيح ب (sExon) فتعطل خروج الرسول الناقل (mRNA) من حيث الشكل بصوره سليمه بتأثير هذه الطفرات يمكن أن يحد من سرعة وصوله الى مصانع تركيب البروتينات "الرايبوسومات" وبالتالى يجعله عرضة للأنظمة تنظيف الخلايا من مخلفاتها أو حتى استهدافه وضربه من قبل أنظمة المناعة فى الجسم حيث تتعامل مع هذا الرسول الناقل على أنه جسم غريب وغير مرغوب ويجب التخلص منه والقضاء عليه بسرعه.
وهنالك اليه أخرى تعتمد عليها الطفرات الصامته فى أحدث صورها وذلك عن طريق تسريع عملية تحلل الرسول الناقل بصوره أسرع من المعتاد وكنتيجه مباشره لذلك يقل انتاج البروتينات بطريقه خطيرة مما يؤدى الى ظهور أمراض خلقيه والعكس هنا ايضا صحيح حيث تستطيع بعض الطفرات الصامته فى التمكن من تصنيع كميات هائله من الرسول الناقل قبل أن يتمكن من الوصول الى مصانع البروتينات مما يؤدى فى نهاية المطاف الى قلة انتاجها وكانت "اندريا تكيلى" وزملائها من جامعة نورث كارولينا قد اكتشفوا أن هذا النوع من الطفرات الصامتة بالتحديد يؤثر مباشرة على القدرة على تحمل الالام. وتستطيع بعض انواع الطفرات الصامتة فى زيادة مقاومة الخلايا السرطانية للعلاج الكيميائى عن طريق تغيير شكل البروتينات المسؤولة عن بقاء العقارات الكيميائيه فى داخل الخلايا وقلة قدرة هذه الخلايا على امتصاص العقارات ولفظها خارجها مما يزيد من مقاومة الخلايا السرطانيه للعلاج الكيماوى. وهذا النوع من الطفرات الصامتة يؤثر ليس فقط على شكل البروتين ولكن يؤثر ايضا بصور مباشرة على الجين الى يعطى الأوامر لتصنيعه.
جينات فاعلة وعلاج أكثر فاعليه:
من أهم الدروس التى يمكن الاستفاده منها فى هذه الدراسات الحديثه هو ان الجينات الصامته يجب عدم التقليل من دورها فى حدوث الكثير من الأمراض الوراثيه . ومن الواضح أن هذه الاكتشافات الأخيره تساعد العلماء فى تطوير طرق الهندسه الجينيه والبيوتكنولوجيه من حيث معرفة الأهميه المحتمله للجينات المختلفة واماكن تواجدها فى ال (DNA) وحتى كيفية التحكم فيها بما يعود بالفائده ولكن من أهم الدروس كذلك هو أن مثل هذا النوع من الأبحاث يسلط الضوء بصورة أكبر على الأسباب الحقيقية لظهور الكثير من الأمراض وخاصة الوراثيه منها. و للحد من احتمالات ظهور الطفرات و ما يمكن ان تسببه من مشاكل صحية فان تناول الغذاء السليم و المتوازن و الابتعاد عن كل المواد الغريبة على الجسم و التى لا تشكل جزء من تركيبته بالاضافة لتجنب العادات الضارة مثل التدخين يمكن ان تكون خطوط الدفاع الاولى لحماية اجسامنا من التأثير السلبي للطفرات.
*دكتوراه في البيوكيمياء- تخصص احياء جزيئية
دبلوم في البيوتكنولوجيا و الميكروبيولوجيا الصناعية
كلية سانتنيل-كندا