في كلمتها أمام مؤتمر هرتسيليا للمناعة والأمن القومي، اعترفت زعيمة حزب كاديما وزعيمة المعارضة في الدولة العبرية تسيبي ليفني بأن مواطني دولتها يشعرون هذه الأيام "بانعدام اليقين إلى درجة الخوف"، مضيفة أن هذا الأمر يميز دولة إسرائيل، ولا يمر به غالبية مواطني دول العالم. وجاء ذلك في سياق القلق الذي ينتابهم مما يحدث في الخارج، خاصة في مصر وتونس، وقناعتهم بأن دولتهم محاطة بالأعداء.
جاءت كلمة ليفني قبل خمسة أيام من النهاية السعيدة والعظيمة للثورة المصرية المباركة، ما يجعلنا متأكدين أن نبض كلماتها (حتى لو بقي المضمون) كان سيتغير لو جاءت بعد نهاية الثورة وغياب الرئيس المصري حسني مبارك ومعه نائبه عمر سليمان الذي كانت تل أبيب تأمل في أن يكون بديل مبارك، مع العلم أنها لم تكتف بالأمل، بل عملت ليل نهار من أجل إنجاز المهمة لصالح الرجل، وهي ذاتها التي ربما أدت إلى الضغط على مبارك لكي لا يتنحى ويكتفي بنقل صلاحياته لنائبه، الأمر الذي يتوقع أنه جاء نتاجا لتهديدات تتعلق بمصيره ومصير عائلته وثرواتها وما يمكن أن تتعرض له من ملاحقة.
وفيما حمَّلت ليفني غريمها بنيامين نتنياهو مسؤولية الجمود في عملية السلام، فقد ذهب رئيس الدولة شمعون بيريز إلى أن الاضطرابات في مصر والشرق الأوسط تجعل من الضروري أن يعود الإسرائيليون والفلسطينيون إلى المفاوضات لصنع السلام.
وهنا يمكن القول أيضا: إنه لو جاءت كلمة المذكور بعد الانتصار الذي تحقق، وبالتفاصيل المعروفة لكانت مختلفة، ذلك أن زمن ما بعد الانتصار لن يكون هو ما قبله، لأن لعبة المفاوضات بعد الذي جرى لن تمضي في ذات المسار وبذات الطريقة والروحية، مع العلم أن الجيش المصري بالنسبة للإسرائيليين كان مصدر إزعاج على الدوام، إذ كشفت وثائق ويكيليكس قلق تل أبيب من حقيقة أن العقيدة الأمنية للجيش المصري ما زالت تنص على أن "إسرائيل" هي العدو رغم ثلاثة عقود على توقيع اتفاقية كامب ديفيد.
المسؤولون الإسرائيليون الآخرون، وفي مقدمتهم نتنياهو ركزوا طوال أسابيع الثورة المصرية على ضرورة التزام النظام التالي لمبارك باتفاقية كامب ديفيد، لكن التزام القاهرة ببنود الاتفاقية لا يخفف من الهواجس الإسرائيلية، لأن دور مصر حسني مبارك وعمر سليمان، بخاصة خلال الألفية الجديدة كان يتجاوز بكثير مسألة الاتفاقية إلى الالتزام بأمن الدولة العبرية والكثير من هواجسها السياسية أيضا، ومن بينها دعم وتبني السلطة التي ورثت الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
عودة إلى زعيمة كاديما التي يمكن القول بكل وضوح: إنها لم تكن مبالغة في توصيفها للموقف من حيث مخاوف مجتمعها، فقد حصل الإسرائيليون طوال العقود الأخيرة، وباستثناءات لا تذكر على أنظمة آمنت تمام الإيمان بأن الدولة العبرية قد وجدت لتبقى، وأن المشكلة معها تكمن في عملية السلام التي تجري بخصوص سيطرتها على الأراضي المحتلة عام 67.
ولم تتسامح هذه الأنظمة، لا مع الخطاب ولا مع الممارسة التي تنادي بغير ذلك، الأمر الذي انطبق تماما على منظمة التحرير الفلسطينية التي صارت جزءا من النظام العربي الرسمي فيما يسمى بشقه المعتدل، فضلا عن حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) التي طالما طالبت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بالاعتراف بشروط الرباعية من أجل الحصول على القبول الدولي، وعلى نحو أدق من عيون الجماهير.
هنا لا يخفي قادة الدولة العبرية، ولا مؤيدوها في العالم الغربي هذا الواقع، وهم يعترفون بأن هذه الأنظمة القائمة قد وفرت لتلك الدولة سياجا من الحماية الأمنية والسياسية، وإن بقي الحال في المنطقة قائما على المراوحة بين اللاحرب واللاسلم (مصطلح الحرب لم يعد واردا في قاموس الأنظمة خلال العقدين الأخيرين)، وبالطبع لأن الطرف الإسرائيلي هو الذي يرفض تطبيق قرارات الشرعية الدولية، بل ما هو دونها بكثير بعد شطب العرب لحق العودة في مبادرة بيروت 2002، مع موافقة الطرف الفلسطيني على كثير من البنود التي تمس سيادة الدولة ومساحتها مثل تبادل الأراضي الذي يعني بقاء الكتل الاستيطانية الكبيرة في الضفة، فضلا عن ما كشفته محاضر التفاوض التي كشفتها الجزيرة من تنازلات مرعبة في قضية القدس.
في هذا السياق، وتحديدا في الحالة المصرية، لم يتوقف الإسرائيليون عن التأكيد على أن نظام حسني مبارك كان جزءا أساسيا من سياج الحماية لهم، فضلا عن الإشارة إلى نائبه الجديد الذي حصل على الكثير من الإطراء بعد نجاح الضغوط على مبارك في دفعه نحو تنصيب الرجل نائبا له، مع العلم أن الإطراء عليه لم يكن يتوقف طوال الوقت، ولا سيما خلال الألفية الجديدة، مع أن الأصل ألا يفعلوا حفاظا على مصداقية الرجل، لكنهم وصلوا مراحل متقدمة من الاستخفاف بالناس، الأمر الذي ينطبق على أصحابهم العرب الذين لم يعد بعضهم يخجل من علاقاته معهم.
الآن -وبعد الذي جرى في تونس ومصر- يدرك الإسرائيليون أن الباب قد انفتح على مصراعيه أمام عصر الشعوب. وعندما يحدث ذلك، فإن كل البضاعة التي راجت منذ العام 67 لن تغدو قابلة للتداول في الشارع العربي، ذلك أن جماهير الأمة العربية والإسلامية لم تقتنع يوما بأن بالإمكان التنازل لليهود عن 78% من فلسطين، فضلا عن القبول بالتنازلات التي قدمها المفاوض الفلسطيني "الكريم" في جلساته التفاوضية التي أشرنا إليها آنفا.
هنا ستعود لغة الصراع الحقيقي إلى الواجهة من جديد، وهي لغة تعني من دون شك مرحلة استنزاف لا حدود لها، سواء شاركت الشعوب العربية مباشرة في المعركة، أم اكتفت بدعم خيار المقاومة في أوساط الفلسطينيين بكل وسائل الدعم.
أما إذا كرّت المسبحة كما هو متوقع، وتغيرت الأنظمة المقربة من الغرب، وبالضرورة الدولة العبرية، فإن الموقف سيتغير على نحو جذري، ولن يكون بوسع الأنظمة أن تتجاهل مشاعر جماهيرها فيما يتصل بالعلاقة مع دولة الاحتلال، وحتى الدول التي قد لا تتغير أنظمتها بالكامل لاعتبارات معينة، ستضطر إلى تغيير موقفها من حصار الشعب الفلسطيني ومقاومته، ومن رفضها برنامج المقاومة والتضييق عليه بشكل عام.
هنا تبدو دعوات العودة إلى المفاوضات من قبل الطرف الإسرائيلي أشبه باستغاثات الغريق، ذلك أن أية مفاوضات لن تؤدي إلى نتيجة تمنح دولة العدو الأمن والاستقرار، ليس فقط لأن حجم ما تريده من تنازلات لتمرير التسوية يبدو كبيرا حتى على سلطة أوسلو ورموز الفي آي بي، بل أيضا لأن كل قرارات الشرعية الدولية لن تكون ذات صلة في عقل الجماهير العربية إذا نجحت في الإطاحة بالدكتاتوريات التي تجثم على صدورها، وهي تسير في طريق النجاح بإذن الله.
لا حاجة للتدليل على أن الصهاينة يدركون ذلك، وستزدحم الصحف الإسرائيلية خلال الأيام المقبلة بالكثير من التحليلات التي تؤكد هذه الروحية في التعاطي مع الموقف، لكن واقع الحال سيظل يشير إلى أن رحلة التحرر قد بدأت، وأن التحرر من الحكام المستبدين هو المحطة المؤكدة لتحرير أراضي الأمة من دنس الاحتلال، من فلسطين إلى العراق، وحتى أفغانستان.
التونسيون بدؤوا المسيرة ولهم قصب السبق، لكن الثورة المصرية تبقى عنوان التحرير لما لمصر من وزن في التاريخ والجغرافيا والديمغرافيا وفي وعي الأمة في آن.